مقالات

من بين ركام الماضي نصنع المستقبل (١)بقلم : عصام الدين عباس

متابعات : تي نيوز

منذ استقلال السودان في ١٩٥٦، شهدت البلاد تجارب سياسية متباينة، تخللتها محطات نجاح عابرة، لكنها في مجملها أفرزت إخفاقات متكررة حالت دون تحقيق الاستقرار السياسي والديمقراطي المنشود. فقد ظل السودان يدور في حلقة مفرغة من التحولات والانقلابات والصراعات، حيث لم تتمكن الأحزاب السياسية من ترسيخ تجربة ديمقراطية مستقرة، كما لم تستطع القوى المستقلة فرض نفسها كبديل قادر على قيادة التحول الوطني.
اليوم، ومع استمرار التحديات الراهنة، يصبح من الضروري إعادة النظر في العلاقة بين الاستقلالية والحزبية، ليس باعتبارهما طرفين متعارضين، بل كمكونين يمكن أن يتكاملا في إطار مشروع سياسي وطني يتجاوز إخفاقات الماضي. فبين هيمنة الأحزاب التقليدية وضعف البدائل المستقلة، تبرز الحاجة إلى نموذج سياسي أكثر شمولاً، يتبنى دروس التجارب السابقة، ويؤسس لمسار جديد قادر على تحقيق التغيير الفعلي.
في هذه السلسلة من المقالات، ساستعرض أبرز الإخفاقات السياسية في السودان، والتعلم منها، مع التركيز على كيفية إعادة تشكيل العلاقة بين الاستقلالية والحزبية، بما يضمن بناء مستقبل سياسي أكثر استقرارا، قائم على التعددية، والعدالة، والمشاركة الفاعلة لكل القوى الوطنية.

الاستقلالية والحزبية يتكاملان ولا يتعارضان

لا ينكر الا مكابر حقيقة الدور الهام للأحزاب السياسية السودانية وانها تمثل حجر الزاوية في بناء الدولة المدنية الديمقراطية، حيث تسهم في تأطير الممارسة الديمقراطية، وتنظيم المشاركة الشعبية، وخلق توازن سياسي يضمن التداول السلمي للسلطة. ورغم التحديات التي واجهتها الأحزاب منذ الاستقلال، فإن دورها في تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية لا يزال محوريا، خاصة في ظل المرحلة الانتقالية التي تتطلب جهودا متماسكة لإرساء أسس الحكم المدني المستدام.
هذه الحقيقة لا تتعارض مع إفرازات الحرب السودانية التي خلقت واقعا سياسيا ومجتمعيا جديدا لا يمكن إنكاره، بل ينبغي التعاطي معه بواقعية وفهم عميق. هذا الواقع يعكس تغيرا في المزاج السياسي للسودانيين، ويمكن التعبير عنه من خلال فرضيتين أساسيتين:

  1. تراجع الثقة في التحالفات الحزبية التقليدية مقابل تنامي الكتلة غير الحزبية: شهد السودان تراجعا ملحوظا في أوساط المؤمنين بالنموذج الديمقراطي السابق القائم على التحالفات الحزبية. في المقابل، تنامت كتلة غير حزبية تشمل المستقلين، منظمات المجتمع المدني، النقابات، الشخصيات المجتمعية، ولجان الشباب الثورية. هذا التحول يعكس حالة إحباط من أداء الأحزاب ، التي لم تستطع تحقيق الاستقرار السياسي منذ الاستقلال، مما جعل العديد من السودانيين يبحثون عن بدائل سياسية خارج الإطار الحزبي التقليدي.
  2. النزعة نحو القيادة الكاريزمية: لطالما مال السودانيون إلى البحث عن شخصية قيادية ملهمة قادرة على توحيد الصفوف. هذه النزعة مدعومة بتجارب تاريخية، أبرزها شخصية الإمام المهدي، الذي تمكن من قيادة ثورة ناجحة ضد الاستعمار التركي رغم اختلاف بيئته عن المناطق التي ناصرته، مثل دارفور، جبال النوبة، الجزيرة أبا، وشرق السودان. كان نجاحه يعتمد إلى حد كبير على كاريزماه القيادية، وهو ما لم يتمكن خليفته من الحفاظ عليه، مما أدى إلى تفكك الدولة المهديّة وسقوطها عام ١٨٩٨ بسبب تصاعد النزاعات العرقية والمناطقية. في تاريخنا ايضا كاريزما الراحل د. جون قرنق التي تحدت الآلة الاعلامية لنظام الانقاذ ومناصريه الذين بذلوا الأموال واستنفروا مؤسساتهم للنيل من شخصيته لكن من أن حطت طائرته في ارض الخرطوم رسولا للسلام عقب اتفاقية ٢٠٠٥، حتى ذابت تلك الصورة التخيلية التي رسمها الإعلام المضاد وتقدمت الشخصية الحقيقية لرجل المبادئ فكانت حياته استفتاء ومماته استفتاء وتاريخه ملهما ليس للسودانيين فحسب بل لكثير من الافارقة .
    في السياق الحالي، لا تزال هذه النزعة حاضرة، وإن كان السودانيون أكثر حذرا في اختيار قائدهم المستقبلي. فقد شهدت الحرب الحالية التفافا محدودا ومصلحيا حول قائدي طرفي النزاع، إلا أن غالبية الشعب تنأى عنهما وترسم في أذهانها صورة تخيلية لقيادة كارزمية مستقلة وشعبوية. هذا التوجه يعكس تغيرا في النظرة إلى الديمقراطية، حيث يبدو أن النظام البرلماني على غرار مدرسة ويستمنستر لم يعد خيارا مفضلا، بينما تتزايد فرص تبني نموذج ديمقراطي رئاسي أو نظام هجين تمثل فيه شخصية القائد الملهم راس الرمح في عملية التحول.

نحو مشروع سياسي يقوده المستقلون

استنادا إلى هاتين الفرضيتين، أرى أن تطوير مشروع سياسي جديد بقيادة الفاعلين غير الحزبيين أصبح أمرًا حتميا. هذا المشروع يجب أن يركز على أولويات واضحة تتمثل في:

  1. وقف الحرب وإنهاء الصراع: لأن أي تحول سياسي لا يمكن أن يحدث دون تحقيق السلام أولًا.
  2. تهيئة المناخ للتحول الديمقراطي: عبر وضع الأسس الدستورية والقانونية التي تضمن عملية انتقالية سلسة وشاملة.
  3. إعادة الإعمار والتنمية: لمحو آثار الحرب وإعادة بناء الدولة على أسس أكثر استدامة.

تكامل الاستقلالية مع الحزبية`

لا يعني صعود المستقلين إقصاء الأحزاب السياسية، بل على العكس، من الضروري أن تتبنى الأحزاب عملية إصلاح مؤسسي عميق يجعلها أكثر قدرة على استيعاب التحولات الجديدة. يمكن تحقيق ذلك عبر:

  • إعادة بناء هياكل الأحزاب لتكون أكثر ديمقراطية وشفافية.
  • توسيع دائرة المشاركة السياسية بدلاً من حصرها في النخب التقليدية.
  • تطوير خطاب سياسي يستجيب لتطلعات الشباب والمجتمع المدني.
    في هذا السياق، على الأحزاب أن تتقبل تقليص نفوذها طوعا لصالح المستقلين في هذه المرحلة، بحيث يكون هناك مجال أوسع لتمثيل القوى الجديدة التي أفرزها الواقع السياسي السوداني.
    الاستقلالية والحزبية ليسا متعارضين، بل يمكن أن يكونا مكملين لبعضهما البعض. ففي ظل المتغيرات الراهنة، أصبح من الضروري إعادة التفكير في دور كل من المستقلين والأحزاب في صياغة مستقبل السودان. إذا نجحت القوى المستقلة في قيادة هذه المرحلة بفعالية، وتمكنت الأحزاب من إصلاح نفسها، فقد يكون السودان قادرا أخيرا على تحقيق الاستقرار السياسي الذي طال انتظاره.
فريق Tenews

Recent Posts

مشاورات لاستبدال العملة في الخرطوم والجزيرة عقب تشكيل الحكومة

متابعات : تي نيوز/رحاب عبدالله كشفت مصادر مصرفية مطلعة ، عن ترتيبات و مشاورات تجري…

3 ساعات ago

إخفاقات في خطاب رئيس الوزراء لتشكيل حكومة الأمل

بقلم : المهندس منال عبد اللطيف محمد بشير متابعات : تي نيوز ظللنا …منذ فترة…

3 ساعات ago

تعرف على أسماء الوزارات الجديدة في حكومة كامل ادريس

بورتسودان : تي نيوز أعلن رئيس الوزراء السوداني، د. كامل إدريس، يوم الخميس 19 يونيو…

14 ساعة ago

هروب عناصر الدعم السريع: بيع الأسلحة بأسعار زهيدة

متابعات : تي نيوز كشفت مصادر موثوقة عن قيام عناصر من الدعم السريع ببيع أسلحتهم…

14 ساعة ago

تكامل حدودي اقليمي بين السودان ومصر

متابعات : تي نيوز ـ في خطوة جديدة لتعزيز التعاون والتكامل المشترك بين السودان و…

14 ساعة ago

بنك الخرطوم يُحذر من إحتيال إلكتروني يهدد حسابات العملاء

متابعات : تي نيوز أصدر بنك الخرطوم تحذيراً مهماً لعملائه من تنامي محاولات الاحتيال المالي…

14 ساعة ago